بعد أي حراك سياسي، كل شيء يحدث في عالم اليوم، يتعلق ويدور حول مفهوم الدولة الحديثة وأذرعها الأمنية والأيدولوجية وكيفية التعامل مع الشرائح المختلفة للمجتمع، كما يتعلق بمفهوم الديموقراطية الغربي الذي تم "أنمذجته" في العالم أجمع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وهو بالأساس يعتمد على فكرة الدولة القومية الحديثة والديموقراطية بآليتها الغربية.
الدولة القومية الحديثة تعتمد بدورها على فكرة العقد الاجتماعي (منذ أن أسس لفكرتها جان جاك روسّو مستكملاً ما بناه توماس هوبز وجون لوك، وكل الفلاسفة الذين نظرّوا للعقد الاجتماعي والخروج من حالة الطبيعية)، والفكرة باختصار مُخّل تعتمد كما نظر لها آباء الليبرالية الكلاسيكية على أن يتخلى أعضاء مجتمعٍ ما عن جزء من حريتهم "طواعية" لصالح نخبة حاكمة هيراركية تقوم على مأسسة وتنظيم المجتمع وتعريف حقوق وواجبات الفرد ومراقبة تطبيق كل ذلك بالقوة.
وبالتالي تتربط الفكرة الأخيرة، بالضرورة والتبعية، بهوية المجتمع، إذ من يحدد من هم أعضاء ذلك المجتمع أم لا؟ وما إذا كان ذلك الفرد أو ذاك يخضع لسيادة (sovereignty) السلطة الناشئة؟ وباختصار، يمكن فهم سبب العنف والثورات التي قامت عليها الدول الحديثة في الغرب وحدودها الجغرافية، أنها كانت جميعاً محاولات من المجتمع ومكوناته للإجابة عن الأسئلة السابقة.
ما علاقة الإسلاميين الذين وصلوا للحكم في العالم العربي بكل ذلك؟
ما لا يفهمه الإسلاميون - رغم نقدهم التاريخي لمفهوم الدولة الحديثة - أنهم لم يقدموا في الحكم سوى نموذج لسلطوية الأغلبية والإخلال بالعقد الاجتماعي الذي نظر لها روسّو كمِهاد للدولة الحديثة ... لماذا؟
بعبارة أخرى، حين يربط أي كائن ما (حتى لو امتلك الأغلبية النيابية) الديموقراطية والمواطنة بشروط معينة أو يسبقها بافتراضات معينة، فإن هذا يعني بالضرورة انتفاء صفة الديموقراطية والمواطنة أوتوماتيكياً...
حين يزعم الإخوان وأتباعهم أن هوية الشعب المصري هوية سنيّة وأن الأزهر هو المرجعية وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فقد أقرت الدولة لنفسها الحق في تحديد ملامح الهوية "المشتركة" المزعومة لعشرات الملايين من البشر. في حين إن نظريّة روسو تزعم في الأساس أن تلك الملايين هي التي تشكل ملامح الدولة وليس العكس.
ولأنه من المستحيل تخيل وجود إتفاق كامل على أي هوية أو أي أمر بين ملايين البشر... فإن المطلوب ليس الإتفاق قطعاً، ولكن هذا أيضاً لا يبرر وضع تصور هوياتي طائفي بأي نسبة من النسب في الدستور (العقد الاجتماعي) كشرط لتعريف المواطن المصري أو التونسي أو الإيراني وامتلاكه لحقوقه.
*******
كي تظل الدول الحديثة القومية "ديموقراطية" بمفهومها الغربي يجب أن تظل عناصر الهوية الجمعية أو المشتركة من الأمور القابلة للتفاوض والنقاش وإعادة النقاش فيها. وبمعنى آخر يجب أن يُترك ذلك لقوى المجتمع المدني لتحديده والتفاوض حوله وتحديد المكونات المتعددة لمجتمعٍ ما. ينتج عن عملية التفاوض تلك عملية أخرى معقدة ومركبة ومستمرة لا نهائية هي التفاهمات (compromise)، التي تحدد في النهاية الشكل الأقرب للهوية المشتركة المتخيلة أو المفترضة.
والتفاهمات تختلف عن الشرط أو الاشتراط. فالتفاهم يتحدد بموجب عملية تفاوض لا محددة لا نهائية تخضع لقواعد عديدة. ولأن هذه القواعد ديناميكية حية ومتغيرة في المجتمع وفقاً للتغيرات الاجتماعية الاقتصادية، فإن نتيجتها أيضاً متحركة ومتغيرة في المكان والزمان.
على سبيل المثال، حينما تكتب في الدستور إن هوية هذا الشعب تعتمد على الشريعة وعقيدة أهل السنة المزعومة وحدتها وماهيتها، فإنك تفترض أن كل مواطن لا يتسق مع تلك الهوية هو بالضرورة مواطن ناقصة حقوقه. إن لم تكن منزوعة عنه مواطنته بالكامل.
حدثت عملية الاشتراط تلك سابقاً في حالات أخرى "علمانية" كما في الدولة التركية الحديثة التي أسسها أتاتورك وأدت لتعريفات متحيزة متعسفة للهوية التركية، أقصت ودمرت أقليات وروافد إثنية وعرقية من الأكراد إلى الأرمن وكلفت الدولة صراعاً دموياً مريراً استمر حتى هذه اللحظة. كما حدث في الحالة الفرنسية حين حاول البعض التنظير لكون العلمانية مكون هوياتي للمجتمع الفرنسي.
في حين عندما تترك ذلك الجدل للمجتمع المدني وقواه الحيّة للتفاوض بشأنه تبقى في النهاية مساحات محددة، يلعبها كل مكون من مكونات ذلك المجتمع وفقاً لوزنه النسبي. ولأن هذا الوزن متغير في الزمان والمكان يكون من السُخف والغباء تحديده سلفاً كشرط من شروط الديموقراطية أو معيار للمواطنة.
وبعد كل ذلك، تبقى الانتقادات قوية وعلى قدر كبير من الوجاهة للدولة القومية الحديثة في افتراضها لهوية مجتمع ما كمكون لقومية تلك الدولة، حتى لو كانت نتيجة عملية التفاوض وليس القهر أو الفوقية، لأنه مهما بلغ التفاوض من براح أو حرية، تبقى هوية أي مجتمع في الأرض أكثر تنوعاً وتعقيداً وتشابكاً من ما يمكن أن يعبّر عنه أكثر الديموقراطيات حيوية!
ما هي مناسبة هذا الكلام؟ أو ماهو التطبيق العملي لتلك النظريات؟
تلك النظريات التي يتبناها قطاع من العلماء والباحثين الناقدين للدولة القومية الحديثة، أسردها هنا للإجابة عن سؤالين: ما هو موقع الأنظمة التي شكلّها أو يحاول تشكليها الإسلاميون في مصر وتونس واليمن مثلاً من الديموقراطية؟ والسؤال الثاني: ماهو موقع الإسلاميين من الدولة الحديثة؟
الإجابة عن الأول واضحة المعالم من الأسطر السابقة، فالأنظمة الموصوفة بالإسلامية ليست سوى أنظمة شبه ديموقراطية، حيث تعتمد آليات الديموقراطية الغربية من الانتخاب المباشر والتصويت والرقابة النيابية وفصل جزئي غير مستقر بين السلطات (أو معدوم تماماً في الحالة الإيرانية مثلاً)، في حين تبقى في جوهرها آليات لتحسين صورة وضمان استمرارية سلطوية الأغلبية، عبر التلاعب في القواعد المنظمة للفصل بين السلطات وتحديد مساحات النقاش المتاحة لقوى المجتمع المدني، والهويّات المختلفة في المجتمع.
أما السؤال الثاني، فالإجابة عليه تنزع الغطاء الإسلامي عن ما يسمى بالتجربة الإسلامية في السياسة. لأن ما لم يُحاوله الإسلاميون - رغم زعمهم المستمر أنهم قادمون لتغذية الحضارة الإنسانية بالرافد الإسلامي – هو أن يناقشوا ويفتحوا باب التطوير لفكرة الدولة القومية الحديثة وأوجه مساوئها وما تفرضه على الناس من عنت في بعض الأحيان حتى في أفضل الديموقراطيات. بل على العكس وجدنا الإسلاميون حيثما وصلوا إلى الحكم بادروا للإمساك بتلابيب الدولة الحديثة وأدواتها القمعية والأيدولوجية لفرض أجندتهم السياسية وهويتهم الثقافية المتوّهمة المزعومة على الناس أجمعين.
ولأن هذا سيتعرض للفشل، وهو فاشل لا محالة، فهي مرة أخرى قُبلة حياة للدولة القومية الحديثة كنمط أوحد ووحيد لاتخاذ القرار على مستوى الأمم. بدلاً من فتح الجدل واستثارة الفكر لأجل تعديل ذلك المسار الذي اتخذته البشرية! إذ يبقى نضال الشعوب داخل تلك الدول لأجل تحسين وفرض شروط عادلة للعقد الاجتماعي بدلاً من إعادة بحثه وتمحيصه كأساس للحكم.